العفو عند المقدرة
كتب / السيد سليم
ظل النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام في مكة ثلاث عشرة سنة مأمورين بالعفو، لا يُقاتلون مَن يُقاتلهم، ولا يردُّون على الإيذاء بمثله، رغم ما يتعرَّضون له من تنكيل واضطهاد وتعذيب يومي، ورغم ما يُقاسونه من ويلات ومؤامرات قد بلغت ذِروة الوحشيَّة.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم أكثر الناس عفوًا، لا ينتصر لنفسه قط، ولا يغضب إلا إذا انتُهكت محارم الله، أما في حقه الشخصي، فقد كان عفوًّا حليمًا رحيمًا.
فعن أنس رضي الله عنه قال: خدمتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي: أفٍّ قط، وما قال لشيء صنعتُه: لِمَ صنعتَه؟ ولا لشيء تركتُه: لمَ تركتَه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقًا
وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط، إلا أن تُنتهك حُرمة الله، فيَنتقِم بها لله"
وقد ذهب عبدالرحمن بن عوف وبعض الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فقالوا: يا رسول الله، إنا كنا في عزٍّ ونحن مشركون، فلما آمنَّا صِرنا أذلة، فقال: «إني أُمرتُ بالعفو، فلا تقاتلوا
و في غزوة أحد، مرَّ جيش المسلمين في أثناء سيره ببستان رجل كافر أعمى يُدعى: مربع بن قيظي، فلما سمع حِسَّ الجيش، قال: لا أُحِل لك إن كنت نبيًّا أن تَمرَّ في حائطي، وأخذ في يده حفنة من تراب، ثم قال: لو أعلم ألا أصيب بها غيرَك لرميتُ بها وجهَك، وأساء الأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم. فابتدره القوم ليقتلوه ويؤدِّبوه؛ عقابًا له على سوء أدبه مع خير الخلق صلى الله عليه وسلم لكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم بحِلم وعفو ورحمة أمرهم أن يتركوه، ولا يمسُّوه بسوء قائلاً لهم: «دعوه؛ فإنه أعمى القلب أعمى البصر»
وفي غزوة أحد أيضًا خَلَص المشركون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجرحوا وجهه، وكسروا رَباعيتَه، وهشَّموا الخوذةَ على رأسه، ورموه بالحجارة، ونشبت حلقتان من المغفر في وجهه، وسال الدم من وجنته.
وأخذت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تَغسِل الدم عن وجهه، فكان الدم يَزيد حتى أخذت قطعة من الحصير، فأحرقتْها وألصقتها بالجراح، فاستمسك الدم.
ثم إننا لنعجب أن نرى إزاء هذا الإيذاء الظالم والتعدي الفاحش إحسانًا وفضلاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كان يمسح الدم عن وجهه قائلاً: «اللهم اغفر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون».
ومظاهر رحمة الحبيب صلى الله عليه وسلم تجلَّت في عفوه عن الأعمى الذي سبَّه ونال منه حتى همَّ أصحابه بقتله فأبى عليهم، وقال: «دعوه؛ فإنه أعمى القلب أعمى البصر»، وفي قوله وهو يُجفِّف الدم عن وجهه الكريم الشريف: «اللهم اغفر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون...
